في حياة كل منا لحظاتٌ تبدو عادية، لكنها تحمل في طياتها فرصًا للتغيير العميق. كم من مرة نمر بمواقف مشابهة في حياتنا اليومية، نشعر فيها بأننا مجرد "مارة" أو "عابرين" في مسار طويل، دون أن نعلم أن الله يخطط لتمريرنا في نفس المكان لنلتقي به؟ هذا هو بالضبط ما حدث مع السامرية عند بئر يعقوب، فبينما كان الرب يبدو وكأنه يستريح من سفره الطويل، كان في الواقع يتهيأ للقاء مصالحة لا تقل عُمقًا عن تلك التي تمّت على جبل الجلجثة.
نقرأ في إنجيل( يوحنا 4 ) عن تلك المرأة السامرية التي ظنّت أنها تأتي لتستقي ماءً عاديًا، لكنها كانت على موعد مع "الماء الحي" الذي سيغيّر حياتها إلى الأبد. لقاء غير متوقع، توقّعته السماء بينما كانت هي تظن أنه مجرد لحظة عابرة في حياتها اليومية. في هذا اللقاء، كشف المسيح عن ذاته، وأعلن لها أن الوقت قد حان للمصالحة بين الإنسان والله، تمامًا كما تمّت المصالحة بين يعقوب وأخيه عيسو في مكان قريب من تلك البئر. في بداية القصة يسوع "كان قد تعب من السفر، فجلس هكذاعلى البئر" (يو 6:4). فهل كانت هذه مجرد استراحة جسدية؟ أم أن الرب قصد أن يكون هناك؟ الجواب: كلاهما. لقد اختار يسوع البقاء عند بئر يعقوب عن قصد، ليس
ليستريح فقط، بل ليقابلها ويروي عطشها الروحي.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1.لماذا بئر يعقوب؟ ما وراء المكان؟
لم يكن اختيار المسيح للجلوس على بئر يعقوب عبثيًا. بحسب (تكوين 18:33-20)، اشترى يعقوب هذا المكان عند عودته من لقاء أخيه عيسو بعد سنوات من القطيعة والعداوة بسبب سرقه البكورية وبركته ، وهناك بنى مذبحًا وقدم ذبائح سلامة.ذبيحة السلامة في العهد القديم(لاويين 3) كانت نوعًا من الذبائح التي تُقدم تعبيرًا عن الشكر والمصالحة مع الله، وكانت تؤكل جزئيًا من قبل مقدم الذبيحة ، ما يرمز إلى علاقة حميمية ومشاركة مع الرب. هذا يشير إلى أن بئر يعقوب هو مكان للمصالحة والسلام. اما كلمة "شكيم" تعني: الكتف، النصيب، السهم، أو المكان المرتفع.واختيار هذا الموضع ليكون لقاء المسيح مع السامرية يعكس إرادة الله أن يمنحها نصيبًا جديدًا، وسلامًا مفقودًا.وكأن الرب أراد أن يعيد هذا الرمز في العهد الجديد، ليعلن بداية عهد جديد من المصالحة، ليس بين إخوة بالجسد فقط ، بل بين الله والإنسان! "لأنه هو سلامنا، الذي جعل الاثنين واحدًا، ونقض حائط السياج المتوسط" – أفسس 2: 14
👉السامرية نالت هذا السلام عند البئر، عندما تقابلت مع ذبيحة السلام المتجسدة.
👉 ونحن نلناه بالصليب، عندما بذل نفسه كحمل الله الذي يرفع خطية العالم.
* أن يسوع يذهب في طريقنا، يجلس في أماكن عطشنا الروحي، ليقابلنا حيث لا نتوقع
تأمل: كم من مرة جلس المسيح قرب “بئرنا” منتظرًا لقاءً معنا؟ لكننا كنا مشغولين بالخجل أو مشغولين بالهرب منه ؟
تذكر : المكان الذي فُقد فيه السلام قد يصبح مكان استرداده، حين نجلس فيه مع الرب.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
2.لقاء المقاصد الإلهية وسط العطش البشري والمعرفة السطحية
بينما كانت المرأة السامرية تسعى للحصول على ماء للجسد، كان المسيح يسعى لمنحها ماءً لا ينضب. ففي يوحنا 7: 37، قال:"إن عطش أحد، فليُقبل إليَّ ويشرب." لم يكن لقاؤها بالمسيح مجرد مصادفة، بل كان ميعادًا إلهيًا دُبر بعناية لم تكن السامرية تعرف من هو الذي كان يتحدث معها، لكنها ذكرت بنبرة من الأمل: "أنا أعلم أن مسيّا، الذي يُقال له المسيح، يأتي، فمتى جاء ذاك يخبرنا(يُعلِن) بكل شيء" (يوحنا 4: 25). كانت تعرف عن المسيا من خلال ما سمعته، لكنها لم تكن قد اختبرت شخصه.
لكن المفاجأة الكبرى جاءت عندما أعلن يسوع نفسه بكل وضوح: "أنا الذي أكلمك هو" (يوحنا 4: 26).
يُعلِن" في الأصل اليوناني تعني: "يكشف ما هو مخفي، يُظهر الحق السماوي".
هو نفسه الإعلان الكامل لله (عبرانيين 1:1-3)، والآن صار واضحًا أمامها.كلمة"إعلان" (revelation) في هذه السياق تعني كشف ما كان مستورًا، فتحت بصيرتها على الحقيقة الإلهية العميقة التي كانت مجهولة لها. هو نفسه المسيا المنتظر، أعلن المسيح نفسه لها بوضوح لم يعلنه حتى للفرّيسيّين، وكأنما يقول: “أنا هنا لكِ، أنا النصيب.”
هذا إعلان شخصي جدًا، مباشر، وقوي. لكن في الجلجثة، أعلن المسيح للكون كله: "قد أكمل!" ليعلن للإنسانية جمعاء المصالحة الكاملة. ما بدأ كمقابلة شخصية في بئر يعقوب تحوّل إلى إعلان عالمي على الصليب. المسيح هو نفسه الذي كشف عن ذاته للسامرية، هو نفسه الذي قدّم ذاته كذبيحة مصالحة لنا مع الآب. في هذا الإعلان، نرى أن الله لا يقدم نفسه للمؤمنين فقط، بل للكل – أنه جاء ليخلص كل إنسان.
كم من مرة نكون مثل المرأة السامرية ؟ نعلم مواعيد الرب، نعرف الحق معرفة سطحية، لكننا نعيش كمن ليس لهم نصيب فيه. نركض وراء علاقات أو لذات مؤقتة كمن يحفر لنفسه "آبارًا مشققة لا تضبط ماء" (إرميا 2: 13).
👉 عند البئر: المسيح جلس كالعطشان ليمنح ماء الحياة.
👉 على الصليب: المسيح قال "أنا عطشان" (يو 28:19)، كي يروينا ويطهرنا بدم المصالحة.
تأمل: هل علاقتي بالرب مبنية على إعلان قلبي عميق أم معرفة سطحية؟ هل تركت كلمته تكشف لي ذاته؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
3. من الخزي إلى الكرامة، من الخوف إلى الشهادة
.المرأة التي كانت تتجنب الجميع خرجت بعد اللقاء لتصرخ في مدينته بعدما واجهت السامرية نور الحق، تركت جرّتها – رمز اهتمامها الجسدي –وذهبت تبشّر: "هلموا انظروا إنسانًا قال لي كل ما فعلت. ألعل هذا هوالمسيح؟" (يوحنا 29:4).اللقاء مع المسيح عند بئر يعقوب لم يُغيّر واقعها فحسب، بل أطلقها برسالة فرح وسلام وشهادة، بعدما كانت منبوذة. المسيح اختار هذا التوقيت بالذات، ليقابلها حيث كانت، لا حيث يجب أن تكون. قابلها في حالتها، لا في صورتها المثالية , وركضت إلى الناس الذين كانت تهرب منهم! تغيير حقيقي، إعلان ولّد حياة جديدة.
رسالة روحية: عندما نقبل إعلان المسيح لنا، نتحول من أناس خائفين إلى شهودٍ له أمام الجميع.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
4. الرب يقابلنا حيث نحن!
سواء كنا في حالة خوف مثل يعقوب، أو في حالة ضعف وهروب مثل السامرية، فهو يلتقي بنا في تلك اللحظات ليقدم لنا السلام والمصالحة. لقاء يعقوب بعيسو يُظهر لنا أن الله قادر على تحويل العلاقات المكسورة إلى مصالحة، كما أن لقاء المسيح بالسامرية يُظهر لنا أن الله يقبلنا في كل حالاتنا ليقدم لنا الماء الحي الذي يروي عطشنا الأبدي"لا أطلبك من أجل أعمالك، بل من أجل محبتك" (تثنية 7:8). .اليوم لدينا مكان مصالحة نهائي وابدي يحمل غفران ومحبة غير محدودة ومشروطة وهو مكان الصليب الصليب هو المكان الذي تجسد فيه السلام الأبدي، والمكان الذي عادت فيه علاقة الإنسان مع الله إلى حالتها الأصلية بعد أن تمزقت بسبب الخطية. المصالحة التي تمّت على الصليب هي المصالحة النهائية التي لا تحتاج إلى تعديل أو تغيير، فهي تحمل الغفران الكامل والمحبة غير المحدودة.
"لأن الله كان في المسيح مصالحًا العالم لنفسه غير حاسب لهم خطاياهم" (2 كورنثوس 19:5).
في لقائه مع السامرية عند بئر يعقوب، كشف المسيح لها عن خطاياها، لكنه في ذات الوقت قدم لها غفرانًا ورحمة. هذا اللقاء كان مجرد إعلان أولي للغفران الذي سيقدمه المسيح على الصليب. فعندما كشف عن خطايا السامرية، كان يشير إلى الحق، لكنه لم يقف عند الخطية، بل دعاها للارتواء من "الماء الحي"، أي غفرانه، الذي سيُمنح للإنسان في أكمل صورة على الصليب.غفران المسيح على الصليب هو الفعل الذي أعاد المصالحة بين الله والإنسان. ففي الصليب، كشف المسيح عن خطايا البشر جميعًا، وفي ذات اللحظة قدم الغفران الكامل والمجاني لكل من يقبل عمله على الصليب.
"إذ قد تبررنا بالإيمان، لنا سلام مع الله بربنا يسوع المسيح، الذي به أيضًا قد صرنا لنا دخول بالإيمان إلى هذه النعمة التي نحن فيها مقيمون، ونفتخر على رجاء مجد الله" (رومية 1:5-2).
في لحظة المصالحة على الصليب، قال المسيح: "قد أكمل" (يوحنا 30:19)، وهذه العبارة تشير إلى أن الفداء قد تم بالكامل، وأن عمل الغفران قد اكتمل. المسيح على الصليب قام بإزالة الحاجز بيننا وبين الله، وبذلك يمكن لكل من يثق في عمله أن ينال الغفران الكامل. مثلما قدم المسيح للسامرية فرصة لتغيير حياتها بتلك اللحظة، فإنه يقدم نفس الفرصة لنا اليوم من خلال عمله على الصليب.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
5. من بئر يعقوب إلى صليب الجلجثة: مصالحة شاملة
في بئر يعقوب، بدأت السامرية رحلة المصالحة الشخصية. وعلى جبل الجلجثة، اكتملت المصالحة لكل العالم. "ولكن الكل من الله، الذي صالحنا لنفسه بيسوع المسيح، وأعطانا خدمة المصالحة" (2 كورنثوس 18:5)
🔔 عمق الترابط:
في البئر: الرب جلس ليمنح ماء الحياة على الصليب: الرب نزف ليمنح حياة أبدية
في البئر: كشف جراحها على الصليب: حمل جراحنا
في البئر: أعلن ذاته لها على الصليب: أعلن النعمة للعالم أجمع
هل تشعر أنك مرفوض، مخطئ، بعيد، محمّل بالعار أو الذنب؟ تذكّر السامرية… المسيح لم يحتقرها، بل جلس منتظرًا، بل طلب أن يشرب منها… وكأنه يقول: أنا جئت لأجلك، لأرويك، وأصالحك مع الآب.
✝️ في البئر: بدأ إعلان المصالحة.
🩸 على الصليب: اكتمل الإعلان، ودُفِع الثمن.
اليوم، الرب يدعوك لنفس اللقاء… هل تأتي إلى بئر كلمته وتسمعه؟ هل تأتي إلى صليبه وتسلّم كل شيء؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تطبيق عملي
اجلس مع الرب: خصص وقتًا حقيقيًا في مكان تعبك وقل له: “أنا عطشان يا رب.”
افتح قلبك بالكامل: لا تخف من أن تعرض خطاياك وألمك عليه، هو يعرفها لكنه ينتظر مشاركتك.
اطلب إعلانًا: لا تكتفِ بالمعرفة، بل صلِّ أن يعلن لك الرب ذاته كما أعلن لها.
اذهب واشهد: ما قاله لك الرب لا يُخبأ، بل يُشارك – ربما تغييرك سيكون سببًا في خلاص آخرين.